February 19, 2012

حسن البنا ... بصيرة شاب .. و رؤية عبر الزمان
م. محمد أنور رياض
ولد حسن البنا في أكتوبر 1906 بقرية المحمودية ـ محافظة البحيرة ـ.. أبوه هو الشيخ أحمد عبد الرحمن (مأذون القرية وإمام مسجدها) وعالم الحديث.
أما ابنه حسن فقد تخرج من دار العلوم بعد أن مر بمراحل التعليم المعتادة من حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية , ثم المدرسة الابتدائية , ثم مدرسة المعلمين ... وأخيرا دار العلوم , ورغم أنه كان متفوقا في كل هذه المراحل إلا أنها رحلة مر بها العديد من أقرانه ... ؤية عبر الزمان
مدرس ابتدائي عمره واحد وعشرين عاما ... في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية وبالتحديد في 19 سبتمبر 1927 م ... فما الذي يمكن أن يحلم به شاب في مثل ظروفه .. فقير لا يملك سوي مرتبه , في بلد تحتله أقوي إمبراطورية عسكرية .. ويبدأ حياته في مدينة تحكمها شركة قناة السويس الاستعمارية, وهي دولة داخل الدولة تستغل وتسخر كل من يعيش في المدينة لخدمتها ..
فهل كان علي حسن البنا أن يعيش حلم مدرس الابتدائي عن الشقة والزوجة والأولاد والجدول الروتيني من المدرسة إلي البيت ... قيلولة بعد الغذاء .. ثم سهرة المقهى.. مع صحبة الأفندية في سمـر الرغي وطاحونة النميمة ثم .. يقفل عائدا ألي المنزل منتشيا متبخترا في مشيته محشورا داخل بدلته الكاملة وطربوشه الأحمر علي رأسه ... يوم مكرر مطبوع ومكتوب في صفحة الحياة سطرا بعد سطر ليبلغ في نهاية السلم الوظيفي إلي حضرة الناظر أو إذا سانده الحظ والواسطة ـ إلي سعادة المفتش العام .. ثم المعاش... ثم في انتظار الأجل يقضي بقية عمره جالسا علي الكنبة الإسطنبولي في الصالة لابسا الجلباب والطاقية يجتر ذكرياته عن تلاميذه الذين تفرقت بهم السبل والأقدار فترفع من تميز بالبلادة والغباء , وتحط وتهبط بذوي النجابة والذكاء .. وهي حال الدنيا !!!
فهل كان حسن البنا واحدا من هؤلاء (الُخوجات) ؟؟ ... وهل كان هذا هو الحلم , والأمل , وغاية المني ؟؟؟.. البنا كان له حلم آخر ... وأمل مختلف ... وتطلُّع إلي أفق بعيد ـ علي مد د الشوف ـ ربما لم يكن يراه ـ حينئذ ـ غيره .. انتهي به المطاف بعد عشرين عاما استثمر فيها كل ثانية من حياته لتحقيق أهدافه ـ ليغتالوا جسده شهيدا وهو لم يتجاوز الثالثة والأربعين من عمرة ...
في ليلة باردة سوداء كئيبة مقفرة من شهر فبراير 1949, حملوا جثمانه إلي منزله المحاصر بسواد العسكر وكلاب البشر التي ُتؤمر فتعـقر كل رجل تدب في حي الحلمية ... وسلموه إلي أبيه الشيخ المفجوع ليقوم بتكفينه بنفسه ويضعه في نعشه بلا مساعدة , وتحمله النساء إلي مسجد قيسون الخالي من المصلين بعد أن قطعوا طرقات مقفرة وشبابيك وأبواب أغلقها الخوف من بطش وإرهاب الدولة المهزومة علي حدودها من عصابات بني إسرائيل ... كل من شاهدوه علي بعد طاردوه .. وكل من اقترب ـ صدفة ـ اعتقلوه .. كل من رفع أصبعه بالشهادة قبضوا عليه ... ظلوا يحرسون القبر شهورا في غباء من يظن أ ن الذكري يمكن دفنها مع الجسد ....!!
ولا يستطيع أحد أن يصف هذا المشهد إلا والده .... الشـيخ الثاكل المؤمن ...
كتب الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام الشهيد في العدد الرابع من مجلة الدعوة الصادر في 13 فبراير 1951 بناسبة ذكراه الثانية بعنوان (ولدي الشهيد) ... فقال..
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلي الله عليه وسلم , قال فجاء رسول الله (صلي اللله عليه وسلم) فدعي بالصبي فضمه إليه , قال أنس , فلقد رأيته بين يدي رسول وهو يكيد بنفسه , فدمعت عينا رسول الله (صلي اللله عليه وسلم) ... قال : قال رسول الله (صلي اللله عليه وسلم) , تدمع العين ويحزن القلب , ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل والله إنا بك يا إبراهيم لمحزونون...
تتمثل لي يا ولدي الحبيب صورتين , صورة وأنت رضيع لم تتجاوز ستـة شهور , وقد استغرقت مع والدتك في نوم عميق , وأعود بعد منتصف الليل من مكتبي إلي المنزل , فأري ما يروع القلب ويهز جوانب الفؤاد , أفعى مروعة قد التفت حول نفسها وجثمت بجوارك , ورأسها ممدود إلي جانب رأسك وليس بينها وبينك مسافة يمكن أن تقاس, وينخلع قلبي ,فأضرع إلي ربي وأستغيثه فيثبت قلبي ,ويذهب عني الفزع , وينطق لساني بعبارات واردة في الرقية من مس الحية , وأذاها , وما أفرغ من تلاوتها حتي تنكمش الحية علي نفسها وتعود إلي جحرها , وينجيك الله من شرها لإرادة سابقة في علمه , وأمر هو فيك بالغه...
وأتأملك يا ولدى وأنت صريع وقد حملت في الليل مسفوكا دمك , ذاهبة نفسك , ممزقة أشلاؤك .. هابت أذاك حيات الغاب , ونهشت جسدك حيات البشر , فما هي إلا قدرة من الله وحده تثبت في هذا الموقف , وتعين علي هذا الهول , وتساعد في هذا المصاب , فأكشف عن وجهك الحبيب فأري فيه إشراقة النور وهناء الشهادة , فتدمع العين , ويحزن القلب , ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون) , وأقوم يا ولدي علي غسلك وكفنك , وأصلي وحدي من البشر عليك , وأمشي خلفك أحمل نصفي ونصفي محمول, وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد ...
أما أنت يا ولدي فقد نلت الشهادة التي كنت تسأل الله تعالي في سجودك أن ينيلك إياها فهنيئا لك بها , فقد روي البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي (صلي اللله عليه وسلم) قال: ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلي الدنيا إلا الشهيد فإنه يتمني إن يرجع إلي الدنيا فيقتل عشر مرات لما يري من الكرامة...
اللهم أكرم نزله , وأعلي مرتبته , واجعل الجنة مثواه ومستقره , اللهم لا تحرمنا أجره , ولا تفتنا بعده , واغفر لنا وله, وبلغه أمله من القرب من رسول الله (صلي اللله عليه وسلم) .. (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ...
وأما أنتم يا من عرفتم ولدي واتبعتم طريقه , إن خير ما تحيون به ذكراه أن تنسجوا علي منواله وتترسموا خطاه , فتتمسكوا بآداب الإسلام وتعتصموا بحبل الأخوة , وتخلصوا العمل والنية لله ... وأوصيكم بأن تكونوا صورة صادقة لسيرة ولدي رحمه الله , لا تبتغون من الناس جزاء ولا تخشون غير الله ربا ولا تضمرون لأحد شرا أو أذي (ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) .. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن , فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم, وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) ..
منعوا الناس من تشييع جنازته ...
فهل منعوا الملائكة .. ؟؟؟
حرسوا القبر بالجند والعسكر ....
فهل منعوا عنه الدعاء .. وتكاثر الأنصار .. ؟؟؟
دفنوا البنا ... فهل دفنوا معه أحلامه .... ودعوته.. ؟؟؟
الذين اغتالوا البنا ـ أول مرة ـ قتلوا جسده بأيدي رجال بوليس الملك المجرمين ... ثم قبض عليهم وحوكموا في بداية انقلاب يوليو العسكري ... ووقف عبد الناصر ـ حينئذ ـ علي قبره يشيد بجهاد البنا كيدا ونكاية في الهضيبي , وإشعالا للفتنة داخل الإخوان حيث كان لا يزال بعض الإخوان يظنون ـ وبعض الظن خدعة ـ أنه لازال علي العهد ... وبعد الصدام والقبض علي الإخوان ووضعهم في السجون .. أفرج عبد الناصر عن قتلة البنا لينال وزر الاشتراك في قتله مرة ثانية... وليفتح الباب لطابور طويل من القتله ممتد حثي الآن .... العجيب أن كل منهم يظن أن نهاية دعوة البنا ستكون علي يديه ... والعجيب أيضا أن القاتل في كل الأحوال يبوء بالخسران بينما دعوة البنا في نماء وانتشار .. !!!
البنا مات شهيدا ... والنهاية تفسر البداية,ولكنها نهاية ليس لها نهاية ....
كيف كان الجو الذي أحاط ببداية مدرس الابتدائي الشاب الذي بالكاد بلغ سن التكليف القانوني أو سن الرشد كما يسمونه وهو 21 عاما .. ؟؟
كانت مصر مستعمرة يحتلها الإنجليز ويحكمها من قصر الدوبارة المندوب السامي أو السفير البريطاني ... وفي الواجهة وأمام الناس خيال مآته نظام ملكي علي رأسه ملك بدأ صغيرا (عيلا) تحت الوصاية يلعبون به وبالشعب , وانتهي إلي داعر قمرتي يلعب بالجميع .... المحيطون به من (رجال) القصر وغيرهم من الساسة مالكو الإقطاعيات المترفون وهم عبارة عن هياكل بشرية تتد لي من تحت الطرابيش ولا يمكن التمييز بينهم إلا من حيث ميل زاوية الطربوش فوق الرأس , واتجاه وضع (الزر), ولا يعرفون من السياسة إلا أنها فن المقالب .. وضرب الزنب والمقصات,والتآمر للحصول علي كرسي الوزارة والحكم ... ويعرفون أن الفوز في اللعبة لا يتحقق إلا لمن يسبق إلي حجر المندوب السامي البريطاني وهو الوحيد الذي يستطيع إخراج الكارت الأحمر لمن يتجاوز القواعد بمن فيهم (مولانا جلالة الملك المعظم) !!!!
باشاوات الطرابيش كانوا منقسمين إلي أحزاب مُدجّنة يتنابون الركوب علي ما يسمي بالحكم ... يرفعهم شلوت ..
ويهوي بهم آخر .. البلد والدولة كانت حينئذ سداحا مداحا للمالطي والأرمني والجريجي اليوناني والقبرصي والبلجيكي وكل ما هو صنف أوروبي يمتلكون الشركات والترماي والبنوك والخمارات والكباريهات يسيطرون علي الفلوس والأرزاق ... خواجات محصنون تحت الحماية ... وغزو ثقافي أشد لعنة من الغزو العسكري .... بعثات التنصير, والمدارس تمارس ضلالها وتضليلها بكل حرية ... مدارس الفرير والمير دي دييه (أم الرب) والفرنسسكان والليسيه وفيكتوريا مخصصة لطمس الهوية ومحو الذاكرة , ولا يدخلها إلا الطبقات (إلهاي) استثمارا وإعدادا لقادة المستقبل في مؤامرة خبيثة لا تكل عمادها حشو العقول الفارغة بفراغ شامل والقلوب الميتة بنزع كل أثر للحياة يمكن أن يدب فيها يوما ,وملئ النفوس المتكبرة استكبارا أشد , وتعاليا أكثر عتلا .. ومخاصمة بائنة ـ لا رجعة فيها ـ للدين والتراث ... أما كوادر هذه الطبقة الهاي ورأس الرمح فهم الإقطاعيون وأبناؤهم العاطلون بالوراثة والملحقون ذيولا في ثقافة الفرنجة ومن بهرتهم طريقة حياتهم ... الطبقة التي ملكت الأرض لا عمل لهم إلا جني غلتها وأكل عرق عبيدها من الفلاحين والتحكم فيهم بما يضمن دوام استكانتهم ورضوخهم للأسياد والهوانم والبهوات الصغار.. وعليهم أن يقنعوا بما فرضوه عليهم من عيش الكفاف رغيف الخبز والبصل وعود الفجل وعند ما يبلغ الترف مداه فإن قطعة الحلاوة الطحينية تستحق أن تكون حدثا يُؤرخ به وغاية المراد من رب العباد .. و... حياة تستحق غنوه (ما أحلاها عيشة الفلاح متهني وباله مرتاح) ... !!!
المشهد لا يكتمل إلا بيهود مصر الذين لا ينقصهم الذكاء فقد كان المشهد السياسي والاجتماعي مثاليا بالنسبة لهم ....
عرف هذا العهد أسماء من اليهود كانت تتحكم في التجارة والمال ـ وهي لعبتهم الأزلية ـ إميل عدس .. بيير ديبرمان .. رولان لينين ميبيو .. موريس يوسو .. يوسف زكار .. إيلي بصري .. أصلان قطاوي .. موصيري .. وغيرهم ... أسماء تسخر خير أرض الكنانة في دعم عصابات بني صهيون بقيادة بن جوريون وبيجن ووايزمان .. وتمويل الأقدام النجسة التي تخلع شعب فلسطين من جذوره وأرضه في هجمة بربرية , تتارية .. واستخدموا في ذلك كل ما يملك بنو إسرائيل من مكر موروث .. حتى إن بيت هيلين زوجة الخواجة موصيري كان هو الوكر المحبب للملك يلتقي فيه الممثلة ليليان كوهين المشهورة بإسم كاميليا والمتخصصة في تمثيل أدوار الإثارة ... هيلين كانت تحتفظ برقم تليفون خاص بالملك لا يستخدم إلا في ترتيب وتجهيز قعدات الأنس والذي منه , وبرتيته القمار ولوازمها ....
شاهد حسن البنا أمته الغائبة والمغيبة الغارقة في ظلمات الجهل والفقر لا تعلم من دينها إلا ما تراه من تناحر بين العلماء علي ترتيب فرائض الوضوء أو خلاف وجدل حول الجهر بالنية ـ في بداية الصلاة ـ أو الإسرار بها
عاصر حسن البنا اختفاء الإسلام من الجغرافيا بعد سقوط الخلافة في تركيا وتمزق بلاد المسلمين بعد أن دنستها أقدام المحتل الإنجليزي والفرنساوية والطليان والصرب... وبدأ زحف اليهود في هجرة استيطانية إلي أرض الأنبياء يدفعهم غل اكتنزوه قرونا داخل الصدور .. وخلا الجو لكل ناعق بالقومية والوطنية أو التشبه بالفرنجة الغزاة ...... كل هذا والاستعمار سعيد .. قرير العين .. يلعب معهم لعبة النفي والاعتقال .. زيادة في التلميع , وحبك الملعوب .. وتعميقا لتقطيع وعزل الأوطان ... ودفنا في أغوار الأرض لفريضة الجهاد وإحياء مجد الإسلام , وصار ما فعله كمال أتاتورك بدار الخلافة هو المثل المطلوب اتباعه حيث حاصر المساجد وأنكر الشريعة وحرم الكتابة بالعربية والحجاب واستبدل العمامة بالقبعة.. واتخذ من العلمانية دينا ... ولا زالت كلابه تحرس هذه المبادئ حتي يومنا هذا...
فمذا فعل حسن البنا مدرس الابتدائي .. ؟؟؟
وماذا فعل البنا الذي وقف وحيدا وسط ظلمات بعضها فوق بعض .. ؟؟؟
شاب في العشرين من عمره لا يملك من حطام الدنيا إلا قلبا مبصرا , وإرادة تساندها القدرة العلية, وتكليف يتمثل في نبي الله موسي المطارد من قوي البغي ... عند ما ناداه ربه بالوادي المقدس طوي (اذهب إلي فرعون إنه طغي).. وتاريخ طويل متواصل من الدعاة الذين جددوا للأمة دينها وحفظوا لها ذكرها .. و كلهم بدأوا فرادي .... وتوالت الأحداث...
في خلال العشرين عاما التالية من حياة البنا ...
أصبح العدو الأول للصهيونية ..
والعدو الأول للمستعمرين الإنجليز ..
والعدو الأول للإقطاعيين والأجانب المتحكمين في حركة المال والاقتصاد والتجارة ..
والعدو الأول للأحزاب وعرائس المشهد السياسي ..
والمطلوب رأسه عند الملك ...
قبل حسن البنا كان الزعماء ينادون بعبارات من الهجايص عن الاستقلال التام أو الموت الزؤام ... ووحدة وادي النيل , يلهثون وراء سراب المفاوضات. مع عدو يتبغدد في دلال سمج قبيح ... التفاوض ثم التفاوض حتي لو انتهي التفاوض إلي تكريس التبعية والتخلف والارتباط ذيلا في مؤخرة الاستعمار ....
مع حسن البنا .. سقطت حكومات .. ورفضت مفاوضات ومعاهدات ... وصار للشارع كلمة مسموعة تهز أركان الدولة .. ويخشاه جيش الاحتلال ....
استيقظت الأمة علي قضية فلسطين .. وأدركت الخطر المتربص بها يهدف إلي إبادة أمة ألإسلام والقصاص لبنى قريظة وبني النضير , وخيبر ...
مع حسن البنا ارتفعت راية التوحيد مجددا...
واليوم بعد أكثر من مائة عام من مولد البنا , تنتفض أرض الإسلام ... لا يوجد شبر واحد فيها إلا وقد نبتت فيه شجرة لثورة وصحوة ورفض ومقاومة .... الإسلام السياسي رفع أعلامه وراياته فوق كل المنارات لا يخلو منها حي أو مدينه من الصين شرقا حتي أمريكا ذاتها غربا .. وحتى في بلاد العداوة والبغضاء توجد بؤر تتوهج بالإيمان ... وتنوعت ألوان الصحوة والمقاومة من حمل السلاح والجهاد بالنفس والمال مرورا بالنضال العلمي والتفوق المهني إلي الكفاح السلمي واقتحام أسواق التجارة والمال .... مسلمون يتدفقون حيوية وحياة صوب هدف واحد .. وأمل في يوم آت لا ريب فيه يتوحدون فيه تحت راية لا إله إلا الله...
حسن البنا هو صاحب البذرة ...
حسن البنا لم يضع البذرة في أرض الكنانة ..... وإنما نثرها في الهواء لتحملها الرياح إلي أركان الأرض .... جميع التيارات الإسلامية المعاصرة تدين في وجودها إلي الجماعة الأم وإن اختلفت اجتهاداتها .. فإنها في النهاية رافد من النهر الكبير تفرعت منه ... جميع من انشق .. واختلف .. بعد وتباعد .. يوما ما .. سيعود إلي الحضن الكبير ... دعوة البنا ....
ويظل السؤال ...
ماذا فعل البنا ليحدث هذا التسونامي الذي يهدد كل منشآت الضلال بالدمار والزوال.. ؟؟؟
عرف التاريخ العشرات والمئات من المصلحين والمفسدين والطغاة ....ماركس وإنجلز ولينين ... وعرف غاندي ونهرو وتيتو وجنكيز خان ونابليون ومحمد علي ... وهلك هتلر وستالين وموسيليني ... وترك المفكرون والفقهاء والفلاسفة تراثا وحضارات ... إلا أن الجميع إما أن انتهي أثرهم بموتهم أو بهت فكرهم مع تطور الزمن أو تغير معالم ما جاءوا به بفعل ما أضافه اللاحقون وربما بنقضه أو بالفعل المضاد رغم ما قيل عن معظمهم بأنهم أحدثوا وبدلوا وصنعوا وانعطفوا بالتاريخ ....
حسن البنا لم يفعل أي شئ من ذلك فلم ينعطف بالتاريخ .. ولم يجدث انقلابا .. ولم يغير أو يبدل .. وكل ما فعله ببساطة شديدة أنه لم يأت بأي جديد ... لم يخترع فكرا , وإنما أعمل فكرا ... وفعّل عقلا ... وأشعل بصرا .. ودل علي الطريق ... ومن هنا جاء اللقب العبقري الذي اختص به موقعه من الدعوة (المرشد) .... لم يطلق علي نفسه لقب قائد أو رائد أو رئيـس أو زعيم ... ولو فعل ما كان تعدي الحقيقة .. ولكنه اختار لقبا لا يوحي بأي معني للأبهـة أو السيطرة مدركا بحس المؤمن أن طريقه مزروع بحقول الألغام ومستعمرات الأفاعي فمن أراد أن يسير معه فعليه أن يودع الدنيا بمتاعها , ولا يتوقع مقا بلا أو عرضا .... لا شهرة ولا مادة ... وما هو إلا حامل رسالة يبلغها .. ومرشد ودليل ... علي من يؤمن به أن يتبعه ويبايعه في كل الأحوال في المنشط والمكره ...
كل ما أتي به البنا هو برنامج نووي عالي التخصيب , نشّط به سلسلة التفاعلات الإنسانية الكامنة والتي هدها وأخمدها ـ إلي حين ـ شياطين البشر .... حسن البنا حرك الحلم الساكن في الضمير ... المستوطن في الفطرة ... الكامن بين جنبات الإنسان المسلم .... تنبض بها دقات قلبه ذكراً لكلمة التوحيد لا إله إلا الله ... وحب رسول الله نور يتدفق مع دورته الدموية .... ولكنها مشاعر غير قادرة علي الإعلان والتعبير ... عاجزة عن الخروج إلي الفعل والحركة ... فاقدة الثقة .... كان الإسلام مهزوما مكسورا ... خائفا يتخطفه الناس ذليلا.... وكل ما فعله البنا هو أنه أحيا الأمل ... وشحذ الهمم ... وبعث الشجاعة والإقدام .. والإسراع والسبق إلي التضحية والفداء ...
حسن البنا أخرج الإسلام من تحت الأنقاض...
كان يسعي إلي المساجد , والمقاهي , ومناسبات الزواج والعزاء ... ويجوب القرى والنجوع , ولبي الزيارات في البيوت .. حلو الحديث ... يخرج كلامه من القلب .. ولا حاجز أمامه حتي يحل في القلوب ... قدوة .. تواضع , انكسار للمؤمنين ... يعرف أتباعه بالاسم والرسم والوظيفة والأهل , لا ينسي وجها رآه ولو لمرة واحدة في لقاء عابر ... يحسب كل من يجالسه أنه الوحيد الأثير لديه, الذي لا يشاركه أحد في محبته ... عرف البنا أن البنيان المتين لا يتم إلا من اللبنات المتينة فاهتم بالفرد المسلم وركز علي قوة إعداده ... ومن الفرد كون الأسرة أخوة وتكامل وتكافل ... ومن الأسرة كانت الشعبة ... ثم المكتب الإداري .. وعلي رأس الهرم مكتب الإرشاد... تنظيم حديدي لجماعة تغرس جذورها في الأرض تتمدد داخلها لتزداد ثباتا ونماء ورسوخا .. فكان الانتشار كاسحا غطي بر مصر كله , أثار الفزع وملأ العيون قلقا خاصة وهم يرونه متقدما طوابير الجوالة في استعراضات تسد الميادين وهتافهم يشق الفضاء (الله أكبر ولله الحمد).. وفي كل المواقف كانت الجماعة تؤكد أقوالها بالفعل وتترجم شعاراتها إلي أعمال .... ولذلك قادت الجماعة أول مواجهة بين المجاهدين الإسلاميين وصهاينة بني إسرائيل ـ ورغم الخلل الهائل في موازين التسليح. إلا أن قوي البغي أدركت أن المارد قد استيقظ وأن انفرادها بالمستضعفين من أمة محمد قد ولي زمانه .... ولا سبيل لها عليهم إلا بالمكر والخداع ... لجأت لحشد أذنابها وتحريض أغواتها فكانت خطة المؤامرة دائما هي أن يضرب من تسموا بأسماء المسلمين كل من تمسك بعقيدة المسلمين ....
وتوالت الضربات
وتعاقبت المحن ...
وفعل بالإخوان ما فعل بأصحاب الأخدود .. و....
كم من المرات ظنوا أنهم قد كسروا الجماعة ....؟؟؟
وكم عدد المرات التي ظنوا أنهم قد أبادوها ... واحتفوا بالنصر العظيم ....؟؟؟
و يشاء السميع العليم أن يأتيهم من مكمنهم ويديل دولتهم بعد أكثر من ثمانين عاما ليبدأ النصر أولي خطواته في طريق طويل ينتهي إن شاء الله برفع الراية فوق مآذن الأقصي ..
و مع أول خطوة نحو تحقيق الحلم الكبير فإن حسن البنا سيظل بفكره ومنهجه وتعاليمه حيا في نفوسنا جميعا
لأن حسن البنا لم يمت.. الشهيد لا يموت
حسن البنا لا يزال مرابطا في قبره



No comments:

Post a Comment