لم تهتز مشاعري عندما رأيت حسني مبارك علي النقالة داخل القفص الحديدي و بجواره ولداه يحاولان حجبه عن أعين الكاميرا .. و لم أشعر بأي إثارة و أنا أري العادلي في بدلة السجن الزرقاء جالسا و خلفه ــ لأن السجن أيضا مقامات ــ اللواءات من أركان وزارته سفاحو الداخلية ... فقط تذكرت الحلم الذي شاهدته منذ شهور قبل قيام الثورة ... حينها رأيت حسني مبارك علي هيئة تمثال من الجبس يتساقط عضوا عضوا ... كنت أدري أن الأحلام قد تتحقق بعد سنين كما حدث مع نبي الله يوسف في نهاية قصته عندما رفع أبويه علي العرش و خروا له سجدا و قال يا أبتى هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا .... إلا أن السميع العليم أبي إلا أن يحققها بأسرع مما تمنيت عندما تهاوي حكم مبارك التعيس تنازلا وراء تنازل أمام إصرار الثوار المعتصمين بميدان التحرير علي مدار 18 يوما ... وكانت تلك الأيام بمثابة محاكمة شاملة لكل جرائمه التي ارتكبها في حق الشعب ... لقد طال النقد و التقطيع لكل من سبقه من الرؤساء جمال عبد الناصر و أنور السادات و لكن ذلك لم يتم إلا بعد رحيلهما إلا أنه و لأول مرة و بالمواجهـة يسمع و يري فيها رئيس مخلوع ما يقوله التاريخ عنه في حياته ... يراه رأي العين و يسمعه ثاقبا أذنيه بل و يسجنه و يسوقه محبوسا رهن القصاص أمام العدالة ... لقد صدر حكم الشعب علي حسني مبارك و أركان نظامه في ميدان التحرير بالإعدام سياسيا و لم يتبق منهم إلا جثثا في انتظار حكم المستشار أحمد رفعت لمواراتها إما في الجبانات أو أقبية السجون ...
المشهد الوحيد الذي أثارني في محكمة أكاديمية الشرطة هو عندما نادي القاضي علي المتهم حسني مبارك فرفع يده صائحا ( أفندم ) و كأنه ( دفعة تجنيد ) في طابور للعرض ... فهل كان حسني مبارك أو أي واحد في العالم يتوقع أن تكون هذه هي نهاية رئيس حاز من السلطات ما لم يتمتع به فراعنة مصر القديمة ...
العبرة والعظة دفعتني أن أسأل هل كان يمكن أن تكون نهاية حسني مبارك أفضل ؟؟؟
كان أمل حسني مبارك و أقصي ما يتمناه هو أن يقضي تقاعدا مريحا في أي سفارة أوروبية سعيدا بما حققه من خدمة في القوات المسلحة انتهت به إلي قيادة سلاح الطيران في نصر أكتوبر إلا أن المقادير و حرص السادات علي اختيار نائب له ( خام ... أبيض) لم تلعب السياسة برأسه يسهل تشكيله و تحريكه و عند اللزوم و بعد استهلاكه يقلبه ... إلا أن القدر كان له رأي آخر فكان المقلب ليس من نصيب السادات وحده و إنما نالت منه مصر النصيب الأكبر ... كان حادث المنصة عملية اغتيال فردية للسادات صاحبها هجوم مسلح قادته الجماعات الإسلامية علي مديرية أمن أسيوط و هي عملية كان مقدرا لها الفشل أيضا و ما كان لهذه الأحداث أن تهز أمن البلد و تدفعه إلي حالة من التوتر و الطوارئ لو قوبلت بالرؤية السياسية المناسبة خاصة بعد أن تم السيطرة علي تداعياتها سريعا ... لقد كانت ــ بعكس ما جري ــ لحظة تحول هائلة كان من الممكن استثمارها لبداية ديموقراطية وعهد جديد إلا أن الأيدلوجية الأمنية و أجهزتها التي زرعها نظام عبد الناصر و عززها من بعده السادات و التي فرضت وصايتها علي الشعب و حرمته من بناء مؤسسات شعبية ( أحزاب و برلمان ونقابات ...الخ ) تكون قادرة علي فرز زعاماتها و قادتها ... هذه الحالة الأمنية و هواجسها هي التي دفعت بنائب الرئيس ليملأ فراغ السلطة بدون أن يسأل أحدهم نفسه هل هو رجل المرحلة أم لا ؟؟؟ ... مع أن الجميع كان يراه ظلا باهتا خلف الرئيس السادات ... و مابين ساعة و ضحاها وجد حسني مبارك نفسه يجلس في كرسي رئيس جمهورية مصر بعد أن كان غاية مراده أن يحظى بكرسي في سفارة أوروبية بل و استمر حاكما لمدة 30 سنة ... فهل هي العبقرية الفريدة التي مكنته من الاستمرار في الحكم هذا الردح من الزمن ؟؟؟ ...لا أظن ... فقد قالت النهاية كلمتها عكس ذلك تماما و بكل و ضوح وهي أنه من أغبي حكام مصر إن لم يكن أغباهم علي الإطلاق و إن كان له من عبقرية فإنها تتجلي في قدرته الفذة علي اختيار القرار الخاطئ من بين ألف قرار سليم و تجنب ألف طريق للرشد و التنشين علي طريق واحد للغيّ ... كما لا يمكن إبخاس عبقريته في وضع شروط لكل من استمر معه خادما إمّعة قبل أن يكون معاونا و مساعدا و النماذج واضحة بلا كثير من التفسير التي يعف القلم عن ذكرها ( صفوت الشريف و فتحي سرور و فاروق حسني و زكريا عزمي ويوسف والي و بطرس غالي و نظيف و ... و ....) ... كانت قدراته السياسية المتواضعة واضحة كل الوضوح و أن حكمه ــ كأي زعيم عصابة ــ يستند إلي أجهزة الأمن التي ورثها من سلفيه فقام بتدعيمها لتكون أكثر شراسة وخبثا وأطلق يدها تطيح في خلق الله افتراء و بلطجة و فسادا ....
لقد كان أمام حسني مبارك العديد من الفرص للخروج الآمن من غواية السلطة التي هي مسئولية وغرامة في الدنيا و في الآخرة حساب و ندامة ... فقد بدأ حكمه بالكلام عن الكفن الذي بلا جيوب و أنه لن يجدد مدة ثانية أو ثالثة في الرئاسة و فوّت تلك الفرصة الأولي ( الذهبية ) و لو فعلها في حينها لكان قد ترك علامة بارزة في تاريخه و تاريخ مصر إلا أنه ــ كما كان يتباهى ــ لا يهتم لا بالتاريخ و لا بالجغرافيا بل ومن أقواله المشهورة أنه طول حياته لا يسعى إلي شعبية زائفة وهو شذوذ و عكس ما يطمح فيه كل من يعمل بالسياسة ...
ثم كان ما شاهده العالم جميعا و تابعه من تجلي غباءه السياسي في مواجهة أحداث الثورة التي بدأت بمطالب متواضعة لو استجاب لها في حينها فلربما كان قد احتواها و تعامل معها ببعد نظر من يري أن الحظ الذي دفعه لأعلي منصب في الدولة قد أدار له ظهره أخيرا و أن أوان الرحيل الآمن قد حان ولو حتى بالهروب ... إلا أنه من فضل الله و كرمه أنه واجهها بفكره المنغلق و إبصار الكفيف و إرادة مهزوزة بعد أن شُلّت يده الباطشة فتصاعدت مطالب الثوار لتنتهي به داخل قفص من الحديد راقدا علي سرير المرض رافعا أصبعه و هو يجيب علي سؤال القاضي .. " أفندم "
يقول ربنا عز و جل ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها و أن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) 146 الأعراف
No comments:
Post a Comment