September 17, 2012

وأما بنعمة ربك ... فحدث


وأما بنعمة ربك ... فحدث
بقلم :م. محمد أنور رياض
أقدم اعتذاري مقدما لكل من يقرأ هذا المقال الذي أسوق فيه مشهدا من حياتي وذكرياتي ولولا شيخوخة أعيشها أرجو من الله حسن ختامها ... ولولا أن ما بقي من العمر ومن جسد يتداعي تحت وطأة السنين لاستجبت لدواعي الحرج حيث أن ما تعلمناه في أدبيات الإخوان أن يحذف الإنسان من قاموسه لفظ (أنا) ...
في يوليو 1955 تم القبض عليّ ضمن مجموعة الإخوان الذين كانوا يحاولون للمرة الثانية إعادة تنظيم الجماعة بعد هوجة الاعتقالات التي نالت قيادات الصف الأول سنة 1954.. كانت محاولة التجمع الأولي في مارس 1955 وتم اعتقال معظم أفرادها ... كنت وقتها في العشرين من العمر طالبا في السنة الثالثة من كلية الهندسة جامعة القاهرة
المهم
بعد التحقيق والذي منه في السجن الحربي (والجميع يعرف السجن الحربي وماذا يعني هذا الذي منه)
كان علينا أن نمثل أمام المحمة العسكرية وكانت التوصية التي لقنها لنا (سيادة حضرة )الشاويش عبد المقصود حكمدار السجن وأكدها بفاصل من الكرابيج هي : عندما يسألك سيادة اللواء (رئيس المحكمة) ... هل أنت مذنب ترد وتقول مذنب يا فندم ... و إياك أن تنسي كلمة يا فندم ... ولو سألك : هل عندك أقوال أخري فتقول في صوت مختنق وكأنك علي وشك البكاء ... مظلوم يافندم ... ضحكوا علي يافندم ... غرروا بي يا فندم ... و مرة أخري إياك أن تنسي كلمة يا فندم في آخر كل جملة ... ) ... أما إذا لم يسألك إياك ثم إياك أن تخرج نفسا من فمك ...
المحكمة كانت مبني داخل ثكنات الجيش غير بعيدة عن السجن الحربي ... أمامها جلسنا متباعدين في انتظار النداء علينا ... و عندما سمعت إسمي وقفت منتفضا (أفندم) ... قادني عسكري الشرطة العسكرية ... شمال ... يمين ... شمال ... يمين ... قف ... و قفت أمام سيادة اللواء (حتاتة) وعلي أكتافه تلمع الرتبة المميزة وغير بعيد منه جلس ضابط برتبة عقيد يمثل الادعاء العام ولاشيئ آخر علي المنصة وخلفي وعن يميني وشمالي , قاعة خالية إلا من بضعة كراسي لم يجلس عليها منذ فترة طويلة أحد من البشر ... لم أكلف خاطري بالسؤال : هل هذه محكمه ؟؟؟ وفي أي عصر نعيش ؟؟؟ فلم يكن هذا يمثل لنا أي غرابة بعد أن عشنا في السجن الحربي كل ما هو خارج عن المعقول بل ما هو خارج عن كل ما هو انساني ومناقض لفطرة البشر ... ما علينا فقد بدأت المحاكمة
سأل (القاضي )
ــ هل أنت فلان ؟
ــ أيوه ... يا فندم
المدعي العسكري وقف وبدأ يتلو من ورقة أدلة الاتهام عن انضمام الإرهابي (اللي هو أنا) لجماعة إرهابية (اللي هيه الإخوان) غرضهم قلب نظام الحكم (الذي هو معدول والشعب هو المعووج) ... المدعي خلّص وجلس بعد أن أدي دورا مكررا في مسرحية ساقطة ...
سأل (القاضي (
ـــ هييه ... هل أنت مذنب ؟؟؟
ــ لا يا فندم
رفع القاضي رأسه وأطلق نظرة من عينيه اختلط فيها الغضب والدهشة وكثير من المفاجأة ... وأظنني أيضا كنت في حالة من المفاجأة حتي أنني تصورت أن هناك شخصا غيري هو الذي يتكلم ...
تمالك القاضي نفسه وربما دفعه الفضول ليعرف سبب هذه الإجابة والخروج عن المقرر .
رد الشخص الذي هو أنا
ـــ إن ما قاله المدعي عن الإخوان كلام (قاسي) ... الإخوان تمثل بالنسبة لي عقيدة مستقرة في القلب لا يمكن نزعها أو القضاء عليها مهما فعلتم (الإخوان قالوا أنني شتمت المدعي العسكري وهو شرف لا أدّعيه ـــ)
أشار القاضي فصاح عسكري الشرطة العسكرية الذي كان واقفا خلف الرجل الذي يقف أمامه ... و الذي هو أنا ...
ــ للخلف در ... شمال ... يمين ... شمال ... يمين ...
انتهت المحاكمة ... !!!
طوال فترة الاعتقال كانوا يفرضون علينا حالة من الصمت الدائم إلا أننا بإشارات الأيدي ونظرات العيون كنا نقول الكثير ... و لكن بعد المحاكمة الهزلية وما جري فيها وأثناء العودة إلي السجن الحربي أصابتنا جميعا حالة من الصمت فقدنا معها لغة التواصل التي ابتدعناها فتحجرت العيون وتيبست معها الأيدي ... الجميع أدرك أنه قد حدث خرق خطير لتعليمات معالي حضرة الشاويش حكمدار السجن وأن العقاب واقع لا محاله وإن اختلف تصور كل واحد منا عن حجمه ... فقد كان من الوهم والظن العبيط أن يتصورالبعض منا أن المحكمة ستعتبرما قيل ليس إلا دفاعاً مشروعاً ولذا لن تبلّغ به إدارة السجن الحربي ...
علي باب السجن الحربي انتظرتنا كتيبة من الأشد فجرا من حاملي الكرابيج تصحبهم كتيبة أخري من كلاب الوولف المتوحشة ... كنا مكلبشين كل اثنين في كلابش وكان سلم السيارة الخلفي عاليا ضيقا يحتاج إلي التعاون حتي ينزل الأثنين بقدميهما واحدا وراء الآخر إلا أن الكلاب المسعورة تلقفتنا بسيل من الكرابيج تهوي علي الرؤوس والأجساد فتهاوينا ساقطين فوق بعضنا ولا نكاد نلمس الأرض حتي نقوم فزعا وجريا ... ومع التفاوت بيننا في القوة البدنية وسرعة رد الفعل كان علي الأقوي أن يجر أخاه المشترك معه في القيد ومن ورائنا الكلاب الحقيقية والآدمية كلاهما ينهشان في لحمنا وهم يسوقوننا حتي داخل السجن
ثم بدأت الحفلة الكبري التي شملت كل من في السجن فقد كان دستور الحربي الهمجي هو أن العقاب يعم والثواب يخص (لم نشاهد أو نسمع عن هذا الثواب الخيالي) ... كان من الطبيعي أن يحظي بالنصيب الأكبر من هذا الاحتفال نجوم الحدث !!!!
تحت لسع السياط خلعنا ملابسنا كلها حتي ما أمر الله بستره ... علقونا كالذبائح علي عروق من الخشب وظلوا طول الليل يتناوبون الضرب بالكرابيج ... كلما تعبت مجموعة من الكلاب البشرية حلت محلها مجموعة أخري ...
ماذا كنت تقول لنفسك يا أبو رياض ؟؟
هل لمت نفسك وندمت علي ما جلبته لنفسك ولإخوانك وكنت غنيا عنه ... خاصة وأنك كنت تخاطب كراسي القاعة الفارغة و( قاضيا) سيحكم عليك بحكم معد مسبقا فما هي إلا تمثيلية رديئة الإخراج ؟؟؟ فهل كان عليك أن تستفز (المحكمة) بما قلت وأنت تعرف حق المعرفة عاقبة ذلك ؟؟؟
أبدا ... وهل كان حذٌرٌ يغني عن قدر ؟؟؟؟؟؟
إذا بماذا كنت تشعر؟؟؟
شعرت بما كان يشعر به كل الإخوان في مثل هذه المواقف بأن الله قريب ... قريب ... قريب ... و أنه دائما مع المظلوم ... شعور رائع يمد الإنسان بطاقة هائلة علي تحمل الأذي ... و كنت أحدث نفسي بأن كل ماهو كائن سيكون ... و ستصبح هذه الليلة مع الغد جزءً من الماضي ... كان التسليم والتفويض كاملا لله فلم يكن لنا أي حول أو قوة ففزعنا إلي صاحب الحول والقوة ... كان الموت يرفرف بأجنحته حولنا تمنيناه واشتقنا له فأصبح من أعز أمانينا وكنت أتمثل قول المتنبي
كفي بك داءً أن تري الموت شافيا ... و حسب المنايا أن يكن أمانيا
انتهي العرض ...
وعندما وقعت علي الأرض من التعليقة لم أري شيئا فقد فقدت بصري بصورة مؤقتة استمرت لساعات ...
لماذا أسوق هذه الذكري الأليمة ؟؟
لقد عاصرت خمس من الحكام هم الملك فاروق واللواء محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر ثم السادات وآخرهم التعيس المتعوس وخايب الرجاء بل أكثرهم غباء حسني مبارك ... تعرض الإخوان خلال حكمهم لكل صنوف التنكيل والتعذيب والإقصاء وإنكار حقوقهم الإنسانية اللهم إلا فترات قليلة كما تفاوتت صنوف الاضطهاد مابين القتل والتصفيات الجسدية إلي مصادرة أسباب الرزق إلي الحرمان من الوظائف القيادية ... إلي ... إلي ... و كان الإخوان يعيشون في خوف دائم ... الشنطة مجهزة وموضوعة في غرفة النوم في انتظار زائر الليل البغيض ... محنة الإخوان الأولي كانت في عهد فاروق والذي تم فيها إغتيال سيد شهداء هذا العصر حسن البنا وكان أكثر العهود ظلامية وشراسة هما عهد ي عبد الناصر ومبارك وهما الأطول زمنا والأكثر تنوعا واستخداما لكل أنواع أسلحة البطش والتنكيل إلا أنه بقدر من الله وأمره قامت ثورة 25 يناير بإرادة ربانية وتوالت أحداثها في صورة معجزات تحرسها عناية إلاهية من الانحراف عن غاياتها ... ولا زلت أشاهد في انبهار ما يخبئه القدرلنا يوما بعد يوم
أما المعجزة العظيمة فهو أن أري بعد 57 عاما صدي ما قلته في محكمة لم يسمعني فيه إلا الكراسي وقاض حكم علي قبل أن يراني ومدعي عام (ببغاء) يردد ما لقنوه له ...
ما قلته هو ما كان يجيش في صدورنا جميعا كإخوان تناقلته أجيال بعدنا رفعوا الراية وأراد الله لهم نصرا كانوا علي موعد معه (حتي إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ... يوسف 110) ...
لقد قضي أغلب الإخوان من جيل 54 و55 نحبهم دون أن يثلج الله قلوبهم برؤية مشاهد ثورة 25 يناير وصعود نجم الإخوان ليصبحوا الرقم الأصعب في منطقة الشرق الأوسط ... ولازال العديد من إخواني الذي أسعدهم الله بما سعدت به أحياء وهم قلة أطال الله في عمرهم وأحسن الله ختامهم أذكر منهم ليس على سبيل الحصر ولكن علي سبيل تذكر نعم الله وفضله علينا راجيا ومتوسلا من جمهور الجماعة وغيرهم ألا يضنوا علينا من دعائهم ... وهم أخي وأستاذي ومرشدي الأستاذ عاكف الذي طالما ختمت القرآن معه تسميعا اثناء اعتقالنا في الواحات ... و أطال الله عمره أخي وقائدي نائب المرشد الدكتور رشاد البيومي وأخي وحبيبي وزميل الزنزانه الحاج طلعت الشناوي والمجاهد صاحب المختار الإسلامي شفاه الله أخي حسين عاشور والدكتور المهندس الأديب عبد الفتاح الحسيني المقيم في أمريكا ... ثم أخي الخلوق إبراهيم منير الذي كان ــ بالاتفاق مع السجان ــ يتولي إغلاق الزنازين علينا فيحبسنا فيها حتي صباح اليوم التالي ليكون وجهه السمح آخر ما نراه مساءً وأول ما نراه صباحاً ... و غيرهم ...
والدعاء موصول إن شاء الله لمن سبقونا من إخواننا إلي دار الحق ممن قضوا في السجون وخارجها وقد سبقهم قدر الله فلم يشهدوا هذه الأيام الفاصلة في تاريخ المشروع الإسلامي الذي نادي به البنا منذ أكثر من ثمانين عاما ...
لعل أن يكون ما ذكرته من باب فأما بنعمة ربك فحدث ... وأعوذ بربي من الدّخَل ... ثم ...
أكرر اعتذاري ...